سورة الأنبياء - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ (20)}.
يخبر تعالى أنه خلق السموات والأرض بالحق، أي: بالعدل والقسط، {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم: 31]، وأنه لم يخلق ذلك عبثًا ولا لعبًا، كما قال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27]
وقوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} قال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} يعني: من عندنا، يقول: وما خلقنا جنة ولا نارًا، ولا موتًا، ولا بعثًا، ولا حسابًا.
وقال الحسن، وقتادة، وغيرهما: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا} اللهو: المرأة بلسان أهل اليمن.
وقال إبراهيم النَّخعِي: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ} من الحور العين.
وقال عكرمة والسدي: المراد باللهو هاهنا: الولد.
وهذا والذي قبله متلازمان، وهو كقوله تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ} [الزمر: 4]، فنزه نفسه عن اتخاذ الولد مطلقًا، لا سيما عما يقولون من الإفك والباطل، من اتخاذ عيسى، أو العزير أو الملائكة، {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 43].
وقوله: {إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} قال قتادة، والسدي، وإبراهيم النخعي، ومغيرة بن مِقْسَم، أي: ما كنا فاعلين.
وقال مجاهد: كل شيء في القرآن (إن) فهو إنكار.
وقوله: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} أي: نبين الحق فيدحض الباطل؛ ولهذا قال: {فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} أي: ذاهب مضمحل، {وَلَكُمُ الْوَيْلُ} أي: أيها القاتلون: لله ولد، {مِمَّا تَصِفُونَ} أي: تقولون وتفترون.
ثم أخبر تعالى عن عبودية الملائكة له، ودأبهم في طاعته ليلا ونهارًا، فقال: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ} يعني: الملائكة، {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} أي: لا يستنكفون عنها، كما قال: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء: 172].
وقوله: {وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} أي: لا يتعبون ولا يَملُّون.
{يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} فهم دائبون في العمل ليلا ونهارًا، مطيعون قصدًا وعملا قادرون عليه، كما قال تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن أبي دُلامة البغدادي، أنبأنا عبد الوهاب بن عطاء، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن صفوان بن مُحرِز، عن حكيم بن حِزَام قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، إذ قال لهم: «هل تسمعون ما أسمع؟» قالوا: ما نسمع من شيء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأسمع أطيط السماء، وما تلام أن تئط، وما فيها موضع شِبْر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم». غريب ولم يخرجوه.
ثم رواه ابن أبي حاتم من طريق يزيد بن زُرَيْع، عن سعيد، عن قتادة مرسلا.
وقال أبو إسحاق، عن حسان بن مخارق، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: جلست إلى كعب الأحبار وأنا غلام، فقلت له: أرأيت قول الله للملائكة {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ}
أما يشغلهم عن التسبيح الكلام والرسالة والعمل؟. فقال: فمن هذا الغلام؟ فقالوا: من بني عبد المطلب، قال: فقبل رأسي، ثم قال لي: يا بني، إنه جعل لهم التسبيح، كما جعل لكم النفس، أليس تتكلم وأنت تتنفس وتمشي وأنت تتنفس؟.


{أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)}
ينكر تعالى على من اتخذ من دونه آلهة، فقال: بل {اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ} أي: أهم يحيون الموتى وينشرونهم من الأرض؟ أي: لا يقدرون على شيء من ذلك. فكيف جعلوها لله ندًا وعبدوها معه.
ثم أخبر تعالى أنه لو كان في الوجود آلهة غيره لفسدت السموات الأرض، فقال {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ} أي: في السماء والأرض، {لَفَسَدَتَا}، كقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91]، وقال هاهنا: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} أي: عما يقولون إن له ولدًا أو شريكًا، سبحانه وتعالى وتقدس وتنزه عن الذي يفترون ويأفكون علوًا كبيرًا.
وقوله: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} أي: هو الحاكم الذي لا معقب لحكمه، ولا يعترض عليه أحد، لعظمته وجلاله وكبريائه، وعلوه وحكمته وعدله ولطفه، {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} أي: وهو سائل خلقه عما يعملون، كقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92، 93] وهذا كقوله تعالى: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون: 88].
{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)}


{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)}
يقول تعالى: بل {اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ} يا محمد: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} أي: دليلكم على ما تقولون، {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ} يعني: القرآن، {وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} يعني: الكتب المتقدمة على خلاف ما تقولون وتزعمون، فكل كتاب أنزل على كل نبي أرسل، ناطق بأنه لا إله إلا الله، ولكن أنتم أيها المشركون لا تعلمون الحق، فأنتم معرضون عنه؛ ولهذا قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا يُوحَى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ}، كما قال: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45]، وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، فكل نبي بعثه الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والفطرة شاهدة بذلك أيضا، والمشركون لا برهان لهم، وحجتهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب، ولهم عذاب شديد.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8